عبد الرحمان الحرادجي
أستاذ الجغرافيا بجامعة محمد الأول
كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ وجدة.
السياق العام لانتشار شجر الزيتون بالمدينة تعتبر مدينة وجدة الألفية واحدة من الحواضر العتيقة التي حافظت على حجم عمراني متواضع جدا حتى أوائل القرن العشرين. لم تنْمُ هذه المدينة الحدودية عبر التاريخ إلا بعد وقوعها في قبضة الاستعمار الفرنسي الذي زحف عليها عام 1907 انطلاقا من التراب الجزائري المحتل آنذاك. كانت هذه المدينة التي أسسها زيري بن عطية المغراوي عام 994م وجعلها عاصمة له عبارة عن قرية تتوسط مجالا رعويا تتخلله بقع زراعية بعضها يسقى من عيون وفيرة الماء مثل عين سيدي يحيى التي استمر ماؤها متدفقا نحو البساتين الممتدة في سافلتها حتى أواخر القرن العشرين. ضمت هذه البساتين من بين مغروساتها أشجارا مثمرة لعل من أبرزها الزيتون الذي يعمر طويلا، إلى جانب أصناف أخرى متنوعة من الأشجارالمثمرة غير المعمرة، وذلك قبل أن يبتلع معظمها التوسع العمراني المعاصر. وإلى عهد قريب نسبيا، لم يكن شجر الزيتون شديد الانتشار بمحيط المدينة بحكم حاجته للري والاستقرار، إذ كانت بادية وجدة رعوية وبورية أساسا. ولعل ما يؤكد ذلك قلة الأشجار المعمرة وسيادة شجر البُطم (الفستق البري) الذي اندثر إلا ما ندر منه مما لا زال يشاهد حاليا في مواضع محدودة أساسا حول الأضرحة بحكم قدسية المكان التي حافظت عليه حتى داخل المجال المبني. غير أن الزيتون البري (العُتم أو الزّبّوج أوأزمّور) كان أيضا ملازما للمكان، بل كان شديد الانتشار بشكل طبيعي وهو في موئله ضمن النطاق المتوسطي شبه القاحل. وهكذا يمكن القول إن وجود الزيتون في محيط مدينة وجدة ليس دخيلا ولا مستوردا وإنما حضوره طبيعي أطّرته خصائص الظروف المناخية السائدة.
حدثت خلال القرن العشرين تحولات مجالية واجتماعية – اقتصادية عامة، غيرت ملامح العديد من المجالات بالمغرب وشمال إفريقيا، ومنها محيط مدينة وجدة المباشر والبعيد على السواء. ومن سمات هذا التحول انتشار المغروسات الشجرية مع استتباب الأمن وإرساء دعائم الزراعة والاستقرار في فضاءات لم يسُد فيها قبل ذلك سوى الترحال. بل إن بعض هذه الأماكن لم يطور فيها غراسة الأشجار سوى بدوٌ سابقون بعد استقرارهم في المدينة وتوفير فائض مالي يحفزهم حنينهم إلى ماضيهم نحو استثماره في البادية ولو استثمارا معنويا عاطفيا يجدون فيه راحة نفسية قبل أن يجدوا فيه موردا حقيقيا للدخل في كثير من الحالات. احتدت هذه الظاهرة بامتياز في الوقت الحاضر، إذ جُلّ هذا الشجر يظهر بوضوح صغير السن ومصففا بشكل هندسي حديث، كما يستنتج ذلك أيضا من مقارنة صور جوية قديمة بالمشاهد الحالية.
نمت مدينة وجدة وتوسعت عمرانيا، فكان من الطبيعي أن يزحف الإسمنت على محيطها الفلاحي لتبتلع أراض زراعية ورعوية على السواء، وفي مقدمتها بساتين مروية في هامشها الشرقي بسبب إكراهات الموضع وضعف التجهيز وعدم مواكبته لحاجيات التوسع. ولقد ترتب عن ذلك انضمام الكثير من بصمات الفضاءات الريفية للمشاهد الحضرية، ولعل من أهمها شوارع بأكملها حافظت على تخطيطها الأصلي الموافق لحدود المشارات الزراعية، كما أُبقي على أشجار الزيتون مصففة في جانبي الطريق مثلما يشاهد ذلك بحي الزيتون (طريق بوقنادل مثلا). فبالرغم من ضخامة هذه الأشجار وهرمها وعدم موافقتها للمواصفات المعمول بها في التهئية الحضرية العصرية، فقد احتُفِظ بها من قبل المجزئين والمواطنين على السواء، وبتزكية عفوية من المصالح المختصة في بلدية المدينة. لم يكن هذا غض الطرف الوحيد ضمن الاختلالات العمرانية بالمدينة، بل مجرد جانب يعكس عدم قيام هذه المصالح المختصة بواجبها المهني. فمن المفروض أن تحرص البلدية على تناسق مكونات المشاهد الحضرية وعلى تجانس أشجار التصفيف في الأرصفة والعمل على اختيار ما يلائم منها على مستوى الجمالية والوظيفية والنجاعة. ظلت هذه المدينة يتيمة نوعا ما من هذا الجانب منذ عقود خلت، وخاصة بعد رحيل ثقافة المعمرين الأوربيين عن إدارة شؤون التعمير والهندسة المدنية.
إن توسع مدينة وجدة، مثلها مثل الكثير من المدن المغربية، لم يكن فقط تعميرا للبوادي ببساطة، وإنما رافقه أيضا ترييف للحواضر. فهذه المدينة العتيقة ارتفع عدد سكانها بشكل لافت من حوالي 7000 نسمة في أوائل القرن العشرين إلى حوالي نصف مليون نسمة حاليا. لم تحصل هذه النتيجة عن الزيادة الطبيعية للسكان بقدر ما نتجت عن الهجرة الريفية (القروية). استقبل المجال الحضري الوجدي عمليا أعدادا هائلة من المهاجرين من كل حدب وصوب، وخاصة من البوادي والواحات القريبة والبعيدة. رحل الكثير من هؤلاء النازحين للاستقرار في المدينة بثقافتهم وذهنيتهم وتقاليدهم وعاداتهم البدوية. وهكذا ليس من الغريب أن تؤوي بعض المنازل أصنافا من الحيوانات الأليفة بجنب سكانها، ليست من فصائل الكلاب والقطط كما هو شائع في الحواضر الأوربية، وإنما من فصائل الأنعام من أغنام وماعز، بل ومن أبقار ودواب أيضا، وكذلك الدجاج والأرانب، بل وحتى النحل ( !). أما فيما يخص الحدائق والأرصفة، فقد تصورها الكثيرون فضاءات ليست للزينة وإنما مجرد مساحات قابلة لإنتاج زراعي معيشي من بقول وفواكه وغيرها. وهكذا تحولت المشاهد الحضرية المخضرة لدينا إلى امتدادات للمجال الزراعي بشكل مصغر. وفي « غفلة » من المصالح البلدية المختصة التي لم تقم بواجبها، صار كل مواطن يغرس ما يشاء، ليس فقط في الحديقة الداخلية لمسكنه (إن وجدت)، وإنما في رصيف واجهة مسكنه والساحات المجاورة له، ظنا منه أنه امتداد طبيعي لملكه الخاص، بينما هو في الحقيقة فضاء عمومي يعهد تدبيره وتهيئته لمصالح البلدية تحت رؤية شمولية ومندمجة للمجال الحضري وفضاءاته. وهكذا لم ينتقل السكان وحدهم من البادية إلى المدينة، وإنما انتقلت معهم أصناف من النباتات والمغروسات وعلى رأسها شجر الزيتون الذي احتل الصدارة، بل أصبح سائدا في الأرصفة والحدائق الصغيرة في الكثير من الأحياء، بل في الساحات المنتمية للمؤسسات الدراسية وغيرها، عمومية وخصوصية.
أسباب انتشار أشجار الزيتون وانعكاساته
لعل أول الأسباب وأهمها وراء انتشار أشجار الزيتون بمدينة وجدة خاصة وفي بعض مدننا عامة، يبرز متمثلا في غياب رؤية سليمة للمشهد الحضري لدى الساكنة والمسؤولين على السواء، بل وغياب هؤلاء الساهرين على شؤون المدينة عن عمليات تأثيث مشاهدها وتدبيرها وصيانتها. فشجر الزيتون لم يكن يوما ضمن قائمة التصفيف والزينة، شأنه شأن الأشجار المثمرة عموما، مع استثناءات قليلة، حتى يغض الطرف عن اقتحامه للفضاءات الحضرية. أما الأسباب الأخرى فقد تتلخص في سهولة غرسه وسرعة نموه وقلة احتياجاته، من ماء وصيانة، وكذلك الرغبة في ثمره وزيته والجهل بأضراره. وقد تكون هناك فئة لا يستهان بها من المواطنين يتبنون اعتماد شجر الزيتون في أرصفتهم دون سبب يذكر، ما عدا رؤيتهم له مؤثثا حاضرا بقوة في الفضاءات التي ألفوها في مدينتهم أو حيهم، بل أحيانا تعكس الظاهرة حنينا للبادية ومشاهدها، وكل هذا في غياب ذوق سليم وحس حضري راق.
يعتبر الزيتون من الأشجار المُقصاة من التصفيف داخل المدن، ليس فقط لكونه من الأشجار المثمرة التي تمتص الكثير من أنواع التلوث الخطيرة التي تتسرب إلى ثمره، وإنما أيضا بسبب لونه وشكله وحجمه. فهو شجر لا تتوفر فيه جمالية لا من حيث شكله ولا من حيث لونه. وهو ينمو بسرعة فيتضخم ليعرقل حركة المرور في الأرصفة ويُخفي إشارات المرور من علامات وأضواء، مما يسبب حوادث أحيانا، كما يهدد سلامة البنيات التجهيزية من خيوط الكهرباء والهاتف وقنوات الماء والصرف الصحي، إضافة إلى تهديد سلامة المارة راجلين وركبانا، وتهديد السيارات المتحركة والمتوقفة، ولا سيما أثناء حدوث العواصف. وأكثر من هذا، تعتبر أشجار الزيتون خطيرة من الناحية الصحية عندما يرتفع عددها وتقوى كثافتها. الزيتون شجر يُزهر في فصل الربيع وتتفتح أزهاره لتُفرز لَقاحا وفيرا يتساقط فوق سطح الأرض. فخلافا للأراضي الفلاحية حيث تستوعب التربة هذا اللَقاح ويختفي بين ثناياها بالسقي أو بدونه، يتراكم لَقاح الزيتون فوق الأرصفة المبلطة والشوارع المعبدة، حيث لا مسامية ولا تربة. ويتفاقم هذا التراكم مع احتداد الجفاف، لترتفع نسبة تركز اللقاح في الهواء بشكل مفرط يُؤذي السكان ذوي الحساسية لهذا الصنف من الهباء. فمع هبوب الرياح أو حتى النسيم، ترتفع هذه النسبة في الهواء داخل المجال الحضري بسبب العدد المفرط من أشجار الزيتون وحيث يتزود هذا الهواء من الشجر ومن الأرض، بينما تبقى هذه النسبة ضعيفة في المجال الزراعي حيث لا يتزود الهواء أساسا إلا من الشجر، إذ أن ما يتساقط منه في الأرض يصعب على الهواء أن يلتقطه مرة ثانية. هكذا تنتمي شجرة الزيتون المتكاثرة إلى مصادر التلوث في المجال الحضري، ضمن ما اصطلح على تسميته بالتلوث الأخضر. وفي هذا السياق، تعتبر مدينة وجدة من المدن الأربعة الأوائل الملوثة بلقاح الزيتون في بلادنا، وهذه المدن هي مكناس وبني ملال ومراكش ووجدة، وهي تشترك في القارية وهبوب الهواء الجاف المتردد بحكم وقوعها في النطاق المناخي شبه القاحل.
يواجه كثير من المواطنين معاناة مع الحساسية التنفسية بحدة متفاوتة بين شخص وبين شخص آخر. ويقدر عدد هؤلاء بعشرات الآلاف داخل مدينة وجدة، إذا اعتبرت النسبة العامة التي قد تتراوح بين 10 وبين 20 % حسب التقديرات. ومن الملاحظ أن هذه المعاناة تستفحل بوضوح خلال فصل الربيع، حيث تضاف اللقاحات الفصلية لمسببات الحساسية الأخرى غير الموسمية من عُث وعَفن وتلوث وشعر الحيوانات وأصوافها مثل الكلاب والقطط وغيرها. وبشهادة الأطباء المختصين في أمراض الصدر والربو والحساسية بالإجماع، يحتل لقاح الزيتون مكانة هامة ضمن هذه اللقاحات في الوسط البيئي لمدينة وجدة، بل له حصة الأسد، وذلك لكونه أيضا مسببا تفاعليا في مجال الحساسية. وتتجلى هذه الحساسية عموما في أزمات الربو والتهاب الأنف والتهاب العينين، بالإضافة إلى التهاب الجلد في بعض الحالات، فتسبب مضاعفات صحية تتفاوت خطورتها، كما أن علاجها صعب ومتعذر في الكثير من الحالات، ولاسيما مع التقدم في السن. وتترتب عن هذا المرض أزمات مزمنة تتسبب في تراجع كبير في المردودية نتيجة لنقص الأكسجين المستنشق وضعف التركيز، مما ينعكس سلبا على أداء المريض على مستوى الدراسة والتحصيل والعمل والسياقة وغيرها، وقد تتطور نسبة من الحالات إلى الربو الحاد المستديم.
اجتثاث الزيتون: قرار مؤجل وجدل مستمر
هكذا تتحول بيئة مدينة وجدة خلال فترة من فصل الربيع إلى كابوس حقيقي يلاحق المرضى بالحساسية من كل الأعمار بسبب هذا الضيف الثقيل الذي يشكله شجر الزيتون القادم من البادية مقتحما فضاءات المواطنين من حدائق وأرصفة وساحات عمومية دوناستئذان ولا ترخيص ولا منع، ضدا على قوانين تدبير المجال الحضري الجاري بها العمل. ففي كل ربيع تكتظ المؤسسات الطبية من عيادات ومستوصفات ومستشفيات ومصحات وصيدليات بهؤلاء المرضى وذويهم، يعالجون بأدوية غالبا ما تترتب عن بعضها مضاعفات. ومنذ عدة سنوات خلت، استمرت المصالح البلدية بوجدة في استقبال شكاوى عديدة وبأعداد متنامية من المواطنين ومن مجموعة من الجمعيات والوداديات السكنية، مدعومة بآراء الأطر الطبية واوصياتهم، تناشد المسؤولين رفع الضرر وتتوخى استصدار قرار يمنع شجر الزيتون بالمدينة، أمام غياب تفعيل دور الشرطة الإدارية وشرطة التعمير لمنع هذا الشجر أصلا من دخول المدينة. وفي الواقع، ليس المواطنون هم المتضررون الوحيدون من غياب هذا الدور، وإنما يمكن اعتبار المدينة ومشاهدها أيضا من ضحايا الاستقالة من القيام بالواجب، والتي استمرت بشكل مطرد منذ عدة عقود.
لقد أفضى هذا الأمر إلى إجراء دراسة صحية من قبل السلطات المعنية والمختصة تحت ضغط الشكاوى وآلام المتضررين، خلصت إلى أن « الأشجار المثمرة على العموم لا يجب زرعها في المدينة، خاصة الزيتون” الذي يشكل أعلى نسبة للأشجار بالمدينة « ، تجاوزت 90% من الأشجار المغروسة في المجال الحضري خلال السنوات الأخيرة ». ويبدو أن القرار الذي اتخذ عام 2012، لم يفصح عنه إلا في شهر ماي من العام الجاري (2014)، وقد صرح المسؤولون أنه اتخذ « بالإجماع » ودون أي اعتراض، وإن كان هناك أعضاء امتنعوا عن التصويت. وربما كان ربيع العام الجاري بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، تحت وطأة وفرة اللَّقاح بكمية غير معهودة ومقترنة بجفاف حاد، مما أثار ذوي الحساسية بقوة، بل أدى إلى ظهورها لدى الكثيرين من المواطنين الذين لم يعهدوها من قبل.
استبشر المواطنون المتضررون من الحساسية خيرا بهذا القرار، الذي ينص على ضرورة منع أشجار الزيتون واجتثاثها من المدينة قبل نهاية العام الجاري، فهب بعضهم إلى إزالتها في الحين وتعويضها بأصناف من الأشجار أكثر ملاءمة، أو بتعبير المسؤولين « ستزرع مكان هذه الأشجار المثمرة أنواع أخرى من الأشجار تتناسب مع مناخ المدينة ولا تسبب حساسية »، فيما فضل آخرون انتظار جني ثمارها للموسم الحالي قبل اجتثاثها. لكن الرأي العام فوجئ في شهر شتنبر الماضي بخبر صادر عن رئيس الجماعة الحضرية لوجدة، مفاده تأجيل تنفيذ قرار الاجتثاث وإرجائه إلى وقت لاحق، وذلك حسب البلاغ التالي:
" ينهي رئيس الجماعة الحضرية لوجدة إلى ساكنة المدينة، أن القرار البلدي القاضي بإزالة أشجار الزيتون من داخل المدار الحضري جاء بناء على المقرر الذي اتخذه المجلس الجماعي بالإجماع سنة 2013 بناء على شكايات العديد من المواطنين و مجموعة من الجمعيات والوداديات السكنية نتيجة ما تسببه أزهار لقاح هذه الشجرة من مضاعفات على صحة المواطنين، علاوة على أنها لا تدخل في أشجار التصفيف والتزيين كما هو الحال بالنسبة لباقي المدن الأخرى، بالإضافة إلى ذلك ثبت أن ثمار أشجار الزيتون المتواجدة بالمدار الحضري غير صالحة للأكل نظرا لامتصاصها لجميع أنواع التلوث.
ونظرا لما أصبح يروج مؤخرا من عدم رضا فئة من المواطنين عن هذه العملية، فإن رئيس الجماعة ينهي إلى الساكنة أنه تقرر تأجيل تطبيق مقرر المجلس حيث سيتم فتح نقاش حول الموضوع واستشارات واسعة مع الأطباء والمختصين وبحضور مختلف الجمعيات. ولعلم كافة المواطنين فإن المقرر الذي تم اتخاذه من طرف المجلس الجماعي المشار إليه سابقا جاء استجابة لطلب فئة واسعة من ساكنة مدينة وجدة التي تعاني أمراض الحساسية. وعليه ، ومن أجل البت في هذا الموضوع والإحاطة به من كل الجوانب، فقد تقرر تنظيم ندوة يوم الخميس 16 أكتوبر 2014 على الساعة الرابعة بعد الزوال بقاعة الاجتماعات بالجماعة لتبادل الآراء بين مختلف المتدخلين المعنين. "
قد يتفهم المواطنون الوجديون، ولاسيما المتضررون منهم من لقاح الزيتون، صدور هذا البلاغ وقرار تأجيل اجتثاث شجره من المدينة، لكن ثمة ملابسات تلف هذا الحدث المفاجئ، تستحق ليس وقفة تأملية فحسب، وإنما تستدعي عملية تقويم في أفق ما سيؤول إليه النقاش حول الموضوع المطروح. فمنذ أن اشتدت مطالب المتضررين، بزغ في الساحة جدل بين المعارضين وبين المؤيدين. وإذا كانت الأسس التي بني عليه قرار البلدية بمنع أشجار الزيتون بمدينة وجدة عرضت أعلاه، فإن أعذار معارضي القرار تستحق عرضها وتحليلها بدورها بكل وضوح قبل أي تقويم أو استنتاج. ويبدو أن مناوئي قرار الاجتثاث يصطفون خلف شعارين اثنين وهما « الشجرة المباركة » و « حماية البيئة ».
دفاعا عن الشجرة المباركة… ولكن
لعل « قدسية » شجرة الزيتون من أبرز الدوافع التي تكمن وراء دفاع البعض عنه بكيفية تكاد تكون مطلقة، إذ وردت في ست آيات من القرآن الكريم، مقترنة في كل مرة بنوع أو أنواع أخرى من النباتات والأشجار، مثل الأعناب والزرع والنخل والرمان والتين، أو منفردة كما في الآية الكريمة: » شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ »(سورة النور). إن الشعار الذي يرفعه هؤلاء في وجه « المعتدين » على شجر الزيتون هو « الشجرة المباركة لا تمس (بسوء) ». إنه شعار جميل حقا، لو اقتصر على حماية أشجار الزيتون في موئلها وموطنها في البوادي حيث الأراضي الزراعية تتوفر على تُرَبٍ غنية توفر لها كل ما تحتاج من عناصر مغذية ومقومات لتوسع جذورها ونموها بشكل طبيعي وتمتص لقاحه وتثبته بين ثناياها. أما أن يُرفع هذا الشعار داخل المجال الحضري الذي أُدخل إليه الزيتون قسرا، حيث يعرَّض ثمره للتلوث وتعرقل جذوعه وأغصانه حركات المرور وتضايق جذوره قنوات البنية الأساسية التجهيزية، ويسبب لقاحه متاعب صحية للإنسان، فأمر قد يُعتبر في حد ذاته إساءة لهذه الشجرة المباركة، وضربا لقدسيتها وانتقاصا من فوائدها من « طعام ودهن ونور ». إن اجتثاث هذه الشجرة من فضاء المدينة لن يؤثر لا في قدسيتها ولا في أهمية وجودها وحضورها القوي ببوادينا الممتدة من السواحل إلى الصحراء، بل يمكن اعتباره بمثابة تصحيح لوضعها وإعلاء لشأنها ودفاعا عنها ونزع لتهمة الإساءة للإنسان عنها. ولقد أجاز الفقهاء حتى التضحية بالجنين والتخلص منه إذا كان مهددا لسلامة أمه؛ فكيف لا يجوز التضحية بأشجار في مكان يكون وجودها فيه مصدر متاعب لبني آدم الذين كرمهم الله؟ وهل حياة شجرة (يمكن نقلها وإعادة غرسها في مكان أفضل لها) أسمى من قيمة حياة الإنسان وسلامته الصحية ؟ وإضافة إلى هذا يصدق في وضعية زيتون مدينة وجدة المثل القائل « إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده »، إذ أن كثرة هذا الشجر (في الوسط الحضري) تنقلب من مفيدة إلى ضارة.
المواقف البِيئوية والسياسوية وبؤس خطاباتها
قد يبدو هذا العنوان مسيئا للبيئة ولمناصريها، لكنه في الحقيقة غير ذلك، إذ يعبر عن واقع مرير ومأزق انزوى فيه بعض الغلاة المستميتين في الدفاع عن بعض الشعارات وإن كلفهم ذلك حتى إفراغَها من محتواها، كما هو حال الوقوف بجانب شجر الزيتون بمدينة وجدة ضدا على معاناة المواطنين، والذي لا يبرره منطق، تحت ذريعة « حماية البيئة ». يعتقد الكثيرون أن الخطاب البيئوي هو الرؤية العلمية للبيئة وقضاياها، غير أن الأمر غير ذلك في كثير من الحالات. فـ « علم البيئة » (écologie) ليس هو « البيئوية » أو « حماية البيئة » (écologisme). فالمصطلح الأول يعني « العلم الذي يدرس الكائنات الحية من حيث العلاقات والتفاعلات بينها وبين مكونات مواطنها »، أما الثاني فيخص التيار الفكري الذي يعنى بحماية البيئة وصيانتها. لكن الملاحظ أن هذه الفلسفة تزيغ أحيانا فتضل الطريق لأسباب عدة، يتضح بعضها من خلال تحليل واقع الخطاب البيئوي الرافض لاجتثاث الزيتون من المجال الحضري الوجدي. وتجسد هذا الخطاب مواقف وآراء وسلوكات برزت بشكل لافت خلال آخر نشاطين عرفتهما المدينة في هذا الموضوع، وهما « حلقة دراسية »، وبرنامج إذاعي على البث المباشر، إضافة إلى ما ينشر في مواقع الانترنيت.
نظمت إحدى الجمعيات البيئوية إذن « حلقة دراسية » (مائدة مستديرة) بمدينة وجدة في موضوع « شجرة الزيتون ». وبغض النظر عن مداخلات الجامعيين المشاركين وجل مضامينها، فالبقية من تقديم وتسيير و »نداء »، تم اختياره وانتقاؤه بعناية ليصب في رحى الإيديولوجيا البيئوية، التي دعمها الكثير من الحاضرين بشكل لافت، منخرطين في منطق « انصر أخاك ظالما أو مظلوما »، بل وحتى أحد الجامعيين الوافدين يبدو أنه لم يقدم سوى عرضا تحت الطلب. ولقد ترددت خلال هذه الحصة عبارات ومواقف تعبر بكل صدق عن إقحام إيديولوجيا بيئوية بكيفية غير لائقة أفرَغت شعاراتها من محتواها، بينما لم ترد مثل هذه العبارات خلال البرنامج الإذاعي سوى على لسان زعيم الجمعية، في مواجهة أربعة مدعوين آخرين كلهم يساندون قرار البلدية لتخليص ذوي الحساسية من متاعب شجر الزيتون.
لقد أُقحمت براءة طفلة صغيرة في برنامج الحلقة الدراسية لتتلو ما سمي « نداء الأطفال » الذي حُرِّر لها بعناية فائقة مشحونا بالإيديولوجيا البيئوية، تتألم فيه لمشاهدتها « عمليات اقتلاع أشجار الزيتون وهي حاملة لثمارها… »، بينما لم تنطق ولو بكلمة واحدة في حق آلام المرضى الذين يختنقون بلقاح الزيتون… غُيِّب الضحايا الحقيقيون من ذوي الحساسية وقُلبت الآية فأصبحت شجرة الزيتون هي الضحية واعتُبر جلادا منبوذا كل من يدافع عن كرامة المرضى ويدعو إلى استبدالها وترحيلها من المدينة !ويضيف هذا النص بصوت الطفلة البريئة « هل شجرة الزيتون ضارة ونحن نستهلك ثمارها وزيتها وهي تلطف الجو وتوفر الأكسجين ؟ وهل كان آباؤنا وأجدادنا لا يعرفون شيئا عن الزيتون ؟ وكيف يمكن الاحتماء من الضيعات المحيطة بالمدينة، أم أن حربا ستعلن على الفلاحين ؟ ». يفتقر هذا الخطاب إلى الموضوعية عن قصد، إذ يخلط بين اللقاح (الضار) الذي لا يذكره بتاتا وبين الثمر والزيت ذوا الفوائد، ثم يسرد تلطيف الجو وإفراز الأكسيجين وكأن شجر الزيتون وحده هو الذي يمكنه القيام بذلك داخل المدينة.
صمت أحدهم دهرا ونطق كفرا حين قال « قرار البلدية القاضي بمنع الزيتون بوجدة اتخذه عضو واحد له عداوة مع جمعيات البيئة » (!)، وهذا تصريح غني عن أي تعليق. ويستمر الجدل في الساحة، فنجد صيدلانيا ينضم إلى المدافعين عن شجر الزيتون في المدينة، حيث يقول متسائلا: « الحساسية تهم فقط 10 إلى 15 % من السكان، أليس من المعقول علاج هذه الحساسية ؟ » ويضيف أن الأمر « إما مشكل حكامة وإما مصالح خفية » (!)، بل يصف عملية الاجتثاث بالمجزرة (!). ويبدو هذا الموقف مخجلا بجلاء لأنه لا يستند إلى مبررات صحية (وهو ينتمي إلى أسرة الأطر الصحية) وإنما إلى مبررات سياسية افتراضية واهية لأن البلدية لم تستهدف من عملية استبدال أشجار الزيتون تحقيق مكاسب مالية كما يُدّعى، وإنما عكس ذلك تماما لأنها حفزت المواطنين ليقوموا أنفسهم بالعملية كل أمام مسكنه، « تنصلا » منها من القيام بهذه المهمة. ويظهر بكل وضوح أن هذا الصيدلاني يشذ بموقفه وينأى عن آراء الصيادلة والأطباء، فيتخبط في اقتراحات غامضة وغريبة مثل « الوقاية بدل الاجتثاث، وتخفيف حمولة الحساسية بصيانة الأشجار » (!).
لا يتورع أحدهم عن تشبيه إزالة زيتون مدينة وجدة بتجريف الزيتون الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلية بالأراضي الفلسطينية، متعاميا عن البون البعيد بين زيتون أرصفة المدينة وبين زيتون الحقول الزراعية، والفرق الشاسع بين تجريف أشجار من أجل مصادرة أرض الغير ظلما لبناء مستوطنات وبين استبدال الأشجار إصلاحا للوضع وخدمة للمواطن ورأفة بالمواطنين والمرضى لرفع المعاناة وردا للاعتبار لمدينة مريَّفة ظلما. ويسيح هذا الذي سمى نفسه بـ « الهر الأحمر » فيتيه في فضاء الخيال والأحلام، ممتطيا حدث الاجتثاث وموضوع الحساسية ومدعيا أن أشجارا غُرست بالأمس القريب هي أشجار ألفية (!)، ليصب فيه أحقاده السياسية على مسيري شؤون المدينة. ويتضح هنا أن مبرر تحامله على قرار منع الزيتون واهٍ ولا يخرج عن حسابات ومزايدات سياسية (ربما حزبية أو نقابية) ضيقة لا غير.
مثال آخر للتحامل المجاني على قرار منع الزيتون يجسده ادعاء البعض أن الزيتون لا يسبب أي حساسية، في تناقض صارخ مع المعاينة الميدانية وجهل تام بالدراسات العلمية التي لا خلاف بشأنها بين الباحثين والأطر ذوي التخصص والاختصاص. ومثل هذا التحامل لا يمكن أن يصدر إلا عن متجاهل أو جاهل يتطفل على موضوع يبدو أنه ليس أهلا له.
يدعي البعض أن وجدة بدون أشجار الزيتون سوف تشكل قفصا لا يسمح للمواطن باكتساب المناعة ضد الحساسية للقاح الزيتون. إنه ادعاء باطل بحكم هبوب الرياح والنسيم على المدينة من محيطها الزراعي محملة بجرعات ضعيفة مترددة من هذا اللقاح، كافية لترويض هذه المناعة « المنشودة » عند الاقتضاء، وليس العيش بجوار شجر الزيتون كما يوصي به أحد أقطاب المغالاة البيئوية. فالعيش بجوار هذه الشجرة قد يطور أعراض الحساسية إلى ربو حقيقي يهدد نفسا بشرية بالاختناق في أي لحظة.
ثمة مغالطة أخرى كبيرة يتبناها أحد زعماء النشاط البيئوي مفادها أن حمايةَ زيتون مدينة وجدة حفاظٌ على التوازن البيئي. إن هذا الموقف ينم عن جعل مفهوم البيئة وأنظمتها، إذ لا وجود لمنظومة بيئية ينتمي إليها شجر الزيتون داخل المدينة، وليس هناك أي توازن يختل بإزالة الزيتون أو استبداله. ومما يثير الاستغراب أن هذا الناشط يوصي على أمواج الإذاعة بعدم المساس بأشجار الزيتون المعمرة بحي الزيتون ملمحا إلى أنها تراث ((!. إنها مغالطة أخرى لأن شجر الزيتون ليست له أدنى قيمة تراثية داخل المدينة، بل وحتى خارجها إذ لا يشكل لا موروثا بيئيا خلفته ظروف بيومناخية قديمة ولا هو مهدد بالانقراض، فهو ينمو ويتجدد ويتكاثر دون أدنى عناء. فلعله يريد أن يحول فضاء المدينة إلى « متحف » لأشجار معمرة عديمة القيمة والإنتاج والوظيفة.
يستشهد البعض بوجود أشجار الزيتون حتى بمدينة مرسيليا الفرنسية (الساحة الحمراء ذات الزيتون)، وبالتالي فحضوره مقبول وغير ممنوع: إنه حضور صغير جدا ينحصر في بضع مزهريات كبيرة جدا لتزيين هذه الساحة لا غير، مع العلم أن مرسيليا مثل سائر المدن الساحلية لا يزهر فيها الزيتون كثيرا، ولا يحمل الهواء من لقاحه القليل أصلا سوى شذرات قد تفلت من الرطوبة النسبية العالية التي يوفرها جوار البحر، والتي تحد من وفرته وتمنع اندماجه في الهواء. ويحاول البعض أن يمنح الشجرة المباركة قيمة حتى لدى الأوربيين حينما يذكر أن ثمنها مرتفع جدا في العاصمة الفرنسية، متناسيا أو جاهلا أنها لا تثمر إلا قليلا جدا وفي حالات استثنائية في الجزء الشمالي من فرنسا، مما يجعلها شجرة نادرة تعرض للبيع بأسعار مرتفعة (ابتداء من 25 يورو) كسائر الأصناف النباتية المجلوبة، لتزين بها الحدائق الخاصة. إن قيمتها تكمن في ندرتها وقبولها يبرره انعدام أذاها في هذه الأوساط.
وفي سياق آخر، يتطاول أحدهم على الموضوع ليسرد محاسن الأشجار ومنافعها عموما، ليُقحم ضمنها شجرة الزيتون وإن كانت داخل المجال الحضري (تحافظ على التوازن وتوفر الأكسجين وتحارب التعرية وتسهل تسرب الماء وتحسن المناخ وتجمّل المشاهد.. خلافا للإسمنت.. وتوفر الثمار والزيت)، ليخلص في الأخير إلى أن شجرة الزيتون ليست وحدها التي تسبب الحساسية، وبالتالي لا ينبغي أن تُتخذ مشجبا تُعلق عليه كل المشاكل فيصدر في حقها قرار (غيابيا، كما وصفه مسير الجلسة) يقضي باجتثاثها، وإنما ينبغي حمايتها ممن يقطعونها (من المتخلفين والهمجيين كما وصفهم « مول الگدرة »). إنه خطاب يبدو موجها تحت الطلب، إذ يعترف ضمنيا بتسبب شجر الزيتون للحساسية، ومع ذلك يدافع عنه بدل أن يدافع عن ضحاياه، بل لا يذكرهم حتى الذكر (!). استُقدِم هذا المحاضر من بعيد ليعزز صفوف « مناصري البيئة » وهم منظمو اللقاء، لتتناغم أصوات الجوق المسخر للدفاع عن شجرة مباركة مؤذية في غير مكانها الطبيعي الصحيح.
عندما حوصر مساندو الشجرة موضوع الجدل تعالت أصوات متباينة المناحي، كل منها يغرد في اتجاه. وهكذا اقترح أحدهم إزالة الشجر من جوار المتضررين فقط، وليس كل زيتون المدينة (وكأن المتضررين قابعون في أماكن معلومة لا يتنقلون). ادعى أحدهم أن قرار منع الزيتون بمدينة وجدة لا يستند إلى أساس، بل اتخذه شخص له حساسية تجاه المنافحين عن البيئة (!). وهذا صوت آخر يصيح أن سبب الحساسية ليس هو الزيتون وإنما المباني التي بُنيت بجوار حقوله…
خلاصات واستنتاجات
يتضح من هذا الجدل في موضوع الزيتون بمدينة وجدة أن تيارين متنافرين يتوزعان الآراء والمواقف المعبر عنها، فأحدهما يساند قرار بلدية وجدة القاضي بتخليص الفضاء الحضري من شجرة يُذكي لَقاحُها الحساسية لدى فئة عريضة من المواطنين تقدّر بعشرات الآلاف، بينما التيار الثاني يرفض هذا القرار ويعلن تشبثه بإبقاء الشجرة المباركة مُساكِنة قسرا للساكنة الوجدية. يظهر جليا أن القرار لقي ترحيبا وتجاوبا واسعا لدى سكان المدينة، يؤكده قيام العديد منهم باجتثاث أشجار الزيتون من واجهات منازلهم بالأرصفة والساحات العمومية حتى قبل انصرام الأجل الذي حددته البلدية بعدة أشهر؛ غير أن التيار الرافض يحاول تفسير هذا التجاوب برغبة المستجيبين للقرار في تجنب التكاليف الباهظة التي قد تترتب عن قيام البلدية بالعملية بعد نهاية السنة الجارية أو رغبة الفاعلين في الاستحواذ على الأخشاب. ومهما يكن من أمر فهذا التفسير قد يصدق على حالات معينة لا يمكن بأي حال أن تفوق الحالات الأخرى من حيث العدد، وهي حالات الاستجابة عن وعي لنداء البلدية الذي يجسد رغبة عشرات الآلاف ممن يعانون من الحساسية، مدعومين بذويهم وبالمتعاطفين معهم وبالواعين بضرورة تخليص المدينة من رواسب ذهنيات ريَّفت المدينة، ومن سلوكات تنم عن انعدام الذوق السليم وضعف الحس الحضري، ومن شجرة تسبب الأذى لبني آدم.
ويتضح أيضا أن التيار الرافض للقرار البلدي يضم في صفوفه من يرفع شعار « الشجرة المباركة » فيعتقد أن حمايتها واجب ديني حتى ولو كان لَقاحُها مؤذٍ، بل ومنهم من يبالغ في سذاجة فهمه للدين فيرفض أن تكون الشجرة الموصوفة بـ « المباركة » في القرآن الكريم سببا لأي ضرر. ومهما يكن من أمر فإن الله عز وجل يقول في الآية الكريمة « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة »، ويقول المثل « إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده ». فالشجرة المباركة في بيئتها الطبيعية في البادية قد تنقلب إلى شجرة مؤذية في بيئتها غير الطبيعية وهي المدينة؛ وإقحام هذه الشجرة بكثافة عالية في فضاء المدينة قد يحولها إلى وعاء للتهلكة. إن الواجب الديني ينبغي أن يحرص على كل ما من شأنه أن يخدم سلامة بني آدم الذين كرمهم الله وعلى كل ما يوفر لهم الصحة والعافية والطمأنينة، فبدن الإنسان المسلم أمانة في عنقه.
ثمة مكون آخر للتيار الرافض للقرار البلدي يضم البعض ممن يركبون على الحدث لتصفية حسابات سياسوية أو نقابية أو مهنية أو حزبية ضيقة، أو لأسباب عاطفية حنينية، ضدا على معاناة السكان. وهؤلاء عموما لا يقدمون أي مبرر لموقفهم، ماعدا عدم اقتناعهم بأن شجر الزيتون يُؤذي أحدا، وهم لا ينتظمون في أي إطار موحد معروف.
إن الفئة العريضة من الرافضين للقرار البلدي القاضي بإزالة الزيتون من مدينة وجدة ينتمون إلى التيارات البيئوية التي « تناضل » من أجل حماية البيئة وصيانتها والحفاظ على توازناتها. يتضح أن هؤلاء يتشبثون بالشعار قبل القضية، بل وربما بدونها. فعمليا يرفعون شعار حماية البيئة والمحافظة على التوازن البيئي واستدامة الموارد، لكن تحليل خطاباتهم يظهر مفارقات تستدعي تأملات وتقويما. فمنذ بضعة عقود كان تعبير « المحافظة على البيئة الطبيعية » جزء من عنوان إدارة المياه والغابات، ومع تطور المفاهيم أصبحت « الحركة البيئية تتمحور حول البيئة والصحة وحقوق الإنسان، من أجل حماية الموارد الطبيعية والنظم الايكولوجية ».
إن موقف هؤلاء البيئويين من شجرة الزيتون الوجدية موقف يُغَيِّب عنصرَي الصحة وحقوق الإنسان، بل حتى مفهوم « البيئة » أو « النظام الإيكولوجي » يفقد تعريفه المتداول علميا. فهم يدافعون عن صحة الشجرة بدل صحة الإنسان، بل حتى صحة الشجرة أصبحت في خبر كان لأنهم يدافعون عن بقائها في وسط تمتص فيه شتى أنواع التلوث لتمريرها إلى ثمارها، وهم يتشبثون بحقوق الشجرة بدل حقوق الإنسان، ويدافعون عن « بيئة » لا هي طبيعية ولا هي سليمة ولا هي منظومة إيكولوجية. هذا السلوك في حد ذاته لا يمكن اعتباره سوى انحرافا ينم عن إدراك سيء للمفاهيم واستيعاب مغلوط للأهداف النبيلة لمبادئ حماية البيئة. إنهم يُخطئون هدفَهم فتُفرَغُ شعاراتهم من محتواها. هكذا يظهر الخطاب البيئوي المدافع عن شجرة الزيتون في المدينة خطابا بائسا مجردا عن مبادئ الإنسانية النبيلة، إذ يكرس الأذى الذي يلحق المواطن الحضري ولا يساند مرضى الحساسية لرفع معاناتهم، وبهذا هم يقفون بجانب الجلاد ضد الضحية. إن السبب الكامن وراء هذه الإفرازات المذهبية هو التشبث بالشعارات بعيدا عن الواقعية وفي غياب اعتماد النظرة العلمية للظواهر والتحليل العقلاني للقضايا، مما يحولها أحيانا إلى شعارات جوفاء لا تخدم شيئا ولا أحدا. وليس غريبا أن يعزَّز هذا الخطاب بعرائض ابتزازية تستجدي التوقيعات، ومحاولة إقحام جهات عليا بالبلاد بشكل غير لائق، وأن يلجأ أصحابه إلى استنفار ترسانة الجمعيات المحلية والجهوية، بل والوطنية والدولية أيضا من أجل مسألة حقوقية محلية قد يحسم فيها القضاء ببساطة، إذا مُسّت البلدية في سيادتها على قراراتها. وجدير بالتذكير أن قرار منع شجر الزيتون بمدينة وجدة قرار صائب يصحح وضعا سيئا بالفضاءات العمومية ولا يتضرر منه شيء ولا يمس مصالح أحد، وقد ابتهجت بصدوره فئات عريضة من المواطنين وهم يتطلعون إلى تنفيذه بفارغ الصبر.
وجدة في 10 أكتوبر 2014
تحميل المقال PDF